منظومة مكافحة غسل الأموال في المملكة: حماية النزاهة وتعزيز الثقة في النظام المالي
تُعدّ جريمة غسل الأموال من أخطر الجرائم الاقتصادية التي تهدد استقرار النظام المالي وتُضعف الثقة في التعاملات المشروعة. إذ يسعى مرتكبوها إلى إخفاء أو تمويه المصدر غير المشروع للأموال، لإضفاء صفة المشروعية عليها، مما يُخلّ بنزاهة الأسواق ويقوّض جهود التنمية الاقتصادية والاجتماعية.
وانطلاقاً من هذا الخطر، أولت المملكة العربية السعودية مكافحة غسل الأموال عنايةً خاصة، فأصدرت «نظام مكافحة غسل الأموال» وأقرت لوائح تنفيذية شاملة، كما وضعت أنظمة رقابية متكاملة من خلال البنك المركزي السعودي وهيئة السوق المالية وجهات التحري المختصة، تحقيقاً لالتزامها بالمعايير الدولية وتأكيداً لنهجها في حماية الاقتصاد الوطني.
يعرّف نظام مكافحة غسل الأموال هذه الجريمة بأنها كل عمل ينطوي على اكتساب أموال أو حيازتها أو استخدامها أو نقلها أو تحويلها أو إخفاء أو تمويه مصدرها، مع العلم بأنها متحصلة من جريمة.
ويُعد غسل الأموال جريمة مستقلة عن الجريمة الأصلية التي تولدت عنها الأموال، سواء وقعت داخل المملكة أو خارجها، ويُعاقب مرتكبها بالسجن والغرامة ومصادرة الأموال محل الجريمة. كما تمتد المسؤولية إلى الأشخاص الاعتباريين إذا ثبت أن الجريمة ارتُكبت باسمهم أو لحسابهم.
وتتسم هذه الجريمة بالتعقيد والتداخل، إذ تمر عادة بثلاث مراحل: الإيداع، ثم التمويه، ثم الدمج في النظام المالي المشروع، مما يستدعي رقابة دقيقة وإجراءات استباقية.
يُعد البنك المركزي السعودي (ساما) الجهة الرئيسة في تنفيذ سياسات مكافحة غسل الأموال داخل المؤسسات المالية والمصرفية. وقد أوجب النظام على البنوك وشركات التمويل وشركات التأمين الالتزام بمتطلبات العناية الواجبة تجاه العملاء، وتطبيق مبدأ «اعرف عميلك» للتحقق من هوية العميل وطبيعة نشاطه ومصادر أمواله.
كما تُلزم اللوائح المؤسسات المالية بتقييم مخاطر غسل الأموال، وتوثيق نتائج التقييم، وتحديثها بشكل دوري، وحفظ السجلات لفترات زمنية محددة، والإبلاغ الفوري عن أي عمليات مشبوهة إلى الإدارة العامة للتحريات المالية.
ويمثل هذا الإطار الرقابي خط الدفاع الأول في حماية النظام المالي من محاولات إدخال الأموال غير المشروعة أو تحريكها عبر القنوات النظامية.
وتُعتبر الأسواق المالية من أكثر البيئات عرضة لاستغلالها في عمليات غسل الأموال وتمويل الإرهاب. ولهذا أصدرت هيئة السوق المالية قواعد خاصة بمكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب، تُلزم شركات الوساطة ومديري الأصول والمستشارين الماليين بتطبيق سياسات وإجراءات دقيقة لتحديد هوية العملاء، ومتابعة تعاملاتهم، والإبلاغ عن أي نشاط غير معتاد أو لا يتناسب مع الوضع المالي للعميل.
كما تتضمن القواعد تعريفاً واضحاً للأشخاص المعرضين للمخاطر السياسية، وضوابط التعامل معهم، وإلزام الشركات بحفظ الوثائق والسجلات لفترات لا تقل عن عشر سنوات.
وتعمل الهيئة بالتنسيق مع البنك المركزي والإدارة العامة للتحريات المالية لضمان شمول الرقابة لكل حلقات النشاط المالي، بما يعزز نزاهة السوق ويحافظ على ثقة المستثمرين.
لا يقتصر ضرر غسل الأموال على المؤسسات المالية، بل يمتد أثره إلى الاقتصاد الوطني بأكمله. فهو يؤدي إلى تشويه المنافسة المشروعة، وزيادة معدلات التضخم، وإضعاف الاستثمار، وانتشار اقتصاد الظل، كما يخلق فجوة بين فئات المجتمع نتيجة تدفق أموال غير مشروعة تزعزع العدالة الاقتصادية.
ومن الجانب الاجتماعي، يسهم غسل الأموال في تمويل أنشطة إجرامية أخرى، مثل الفساد والتجارة غير النظامية، مما يهدد الأمن والاستقرار ويقوّض قيم النزاهة التي يقوم عليها الاقتصاد الوطني.
ولهذا فإن من أبرز التحديات التي تواجه جهود المكافحة: التطور التقني في الخدمات المالية الرقمية، وصعوبة تتبع التحويلات عبر الحدود، وتنوّع وسائل التمويه المالي.
وفي المقابل، فإن المملكة تمتلك فرصاً واعدة لتعزيز فاعلية نظام المكافحة، من خلال:
- تطوير أنظمة الذكاء الاصطناعي لتحليل البيانات المالية واكتشاف الأنماط المشبوهة.
- تعزيز التعاون الدولي في تبادل المعلومات والتحقيقات المشتركة.
- رفع مستوى الوعي لدى المؤسسات والأفراد بأهمية الالتزام بإجراءات الإفصاح والشفافية.
في الختام.. إن مكافحة غسل الأموال ليست مجرد التزام قانوني، بل واجب وطني يسهم في حماية الاقتصاد واستدامة التنمية. وقد أرست المملكة منظومة متكاملة تجمع بين التشريع والرقابة والتعاون المؤسسي، لتكون نموذجاً رائداً في حماية النظام المالي من الجرائم المنظمة.
فالمسؤولية مشتركة بين الجهات الحكومية والمؤسسات المالية والمجتمع ككل، لضمان أن يبقى المال في خدمة البناء والنماء، لا وسيلةً للإفساد والتمويه.