الحوكمة والالتزام في النظام السعودي: ركيزة الشفافية واستدامة الكيانات

 

الحوكمة والالتزام في النظام السعودي: ركيزة الشفافية واستدامة الكيانات

مقدمة

شهدت المملكة العربية السعودية خلال العقدين الأخيرين تحولًا نوعيًّا في بنيتها النظامية والاقتصادية، تمثل في تأسيس بيئة تشريعية متقدمة تضمن النزاهة والشفافية في إدارة الكيانات التجارية. وكان من أبرز ملامح هذا التحول صدور نظام الشركات الجديد، وتطوير لوائح حوكمة الشركات الصادرة عن هيئة السوق المالية، التي أرست أسسًا واضحة لمبدأي الحوكمة والالتزام بوصفهما عماد الإدارة الرشيدة والضمان الحقيقي لاستدامة الشركات وتعزيز ثقة المستثمرين.

 

أولًا: مفهوم الحوكمة والالتزام

الحوكمة (Corporate Governance) في جوهرها هي المنظومة التي تُحدِّد العلاقة بين أصحاب المصلحة: المساهمين، ومجلس الإدارة، والإدارة التنفيذية، والمراجعين، بما يضمن تحقيق العدالة والشفافية والمساءلة.
أما الالتزام (Compliance) فهو الجانب التنفيذي في تطبيق الأنظمة والتعليمات واللوائح الداخلية والخارجية التي تحكم الشركة، ويهدف إلى ضمان سير أعمالها في الإطار النظامي السليم، وتفادي المخاطر النظامية والسمعية.

بعبارة موجزة:

الحوكمة هي الإطار، والالتزام هو التطبيق.
الأولى تُنظم المبادئ، والثاني يُحققها واقعًا.

 

ثانيًا: الإطار النظامي للحوكمة في المملكة

اعتمدت المملكة مبادئ الحوكمة ضمن أكثر من مصدر نظامي، من أبرزها:

  1. نظام الشركات الصادر بالمرسوم الملكي رقم (م/132) لعام 1443هـ، الذي تضمّن نصوصًا تؤكد مسؤولية مجلس الإدارة، ووجوب إعداد القوائم المالية، والإفصاح، ومنع تضارب المصالح.
  2. لائحة حوكمة الشركات الصادرة من هيئة السوق المالية عام 2017م والمحدثة في 2023م، والتي نصّت على المبادئ العامة لإدارة الشركات المدرجة وغير المدرجة.
  3. نظام السوق المالية ونظام مكافحة الاحتيال المالي، اللذان عززا الإطار الرقابي لحماية المستثمرين وتطبيق قواعد الإفصاح والمساءلة.

وتهدف هذه المنظومة إلى إرساء بيئة تُشجع على العدالة والكفاءة والمساءلة، وتمنع استغلال السلطة أو إساءة استخدام موارد الشركة.

 

ثالثًا: أركان الحوكمة الفعّالة

تقوم الحوكمة في النظام السعودي على أربعة أركان أساسية:

  1. الشفافية والإفصاح
    تلتزم الشركات بإعلان بياناتها المالية والإدارية بدقةٍ وفي الوقت المحدد، حتى تتاح المعلومات لجميع المساهمين وأصحاب المصلحة على قدم المساواة.
  2. المساءلة والمحاسبة
    يتحمل مجلس الإدارة المسؤولية عن نتائج قراراته أمام المساهمين والجهات الرقابية، مع التزام الإدارة التنفيذية بتقديم تقارير دقيقة عن الأداء والمخاطر.
  3. العدالة والمساواة
    يتعين معاملة المساهمين وأصحاب المصلحة دون تمييز، وضمان مشاركتهم في القرارات الجوهرية وفق الضوابط المحددة.
  4. المسؤولية الاجتماعية والأخلاقية
    توسعت مفاهيم الحوكمة لتشمل التزام الشركات بالمسؤولية الاجتماعية، وحماية البيئة، وتبني السلوك المهني القويم في التعامل مع المجتمع والعملاء.

 

رابعًا: الالتزام كضمان لتطبيق الحوكمة

لا يمكن أن تتحقق الحوكمة في الواقع ما لم تُترجم إلى ممارسةٍ مستمرة عبر إدارة الالتزام داخل الشركة.
وتهدف إدارة الالتزام إلى:

  • مراقبة تطبيق الأنظمة واللوائح.
  • تقديم الاستشارات القانونية والتنظيمية للإدارة.
  • الإبلاغ عن أي مخالفات أو تجاوزات.
  • التأكد من التزام الشركة بمتطلبات الجهات الرقابية، مثل وزارة التجارة وهيئة السوق المالية وهيئة الزكاة والضرائب.

وقد ألزم نظام الشركات ولائحة الحوكمة الشركات المساهمة بتشكيل لجنة مراجعة داخلية وإدارة للالتزام مستقلة عن مجلس الإدارة، لضمان الموضوعية وعدم تضارب المصالح.

 

خامسًا: العلاقة بين الحوكمة والالتزام في المنظور النظامي

العلاقة بين الحوكمة والالتزام هي علاقة تكامل وتلازم:

  • فالحوكمة تحدد القواعد التي تضمن العدالة والنزاهة.
  • والالتزام يُراقب تنفيذ تلك القواعد ويُقيم أدائها.
    من دون الحوكمة يتحول الالتزام إلى رقابة شكلية، ومن دون الالتزام تصبح الحوكمة مجرد نصوصٍ لا تُنفذ.

ولهذا، نصت لائحة الحوكمة على أن من مسؤوليات مجلس الإدارة “وضع إطار متكامل للحوكمة والرقابة الداخلية والالتزام، وتقييم كفاءته سنويًا”.

 

سادسًا: أهمية الحوكمة والالتزام في البيئة الاقتصادية السعودية

  1. تعزيز الثقة في السوق: الحوكمة الصارمة تزيد من ثقة المستثمرين المحليين والأجانب.
  2. جذب رؤوس الأموال: الشفافية تقلل من مخاطر الاستثمار وتُشجع على المشاركة في رأس المال.
  3. رفع كفاءة الإدارة: تضمن المساءلة والمراجعة الدورية أداءً مؤسسيًا عالي الجودة.
  4. الحد من الفساد والمخاطر النظامية: من خلال آليات الإبلاغ عن المخالفات والرقابة المستقلة.
  5. تحقيق رؤية المملكة 2030: إذ تُعدّ الحوكمة من أدوات تحقيق الشفافية ومكافحة الفساد وتحسين التنافسية العالمية.

 

خاتمة

لقد رسّخ النظام السعودي مفهوم الحوكمة والالتزام بوصفهما منهجًا إداريًا وتشريعيًا متكاملًا، لا يقتصر على الشركات المدرجة فحسب، بل يشمل جميع الكيانات التجارية التي تتعامل في السوق المحلي.
فالحوكمة ليست إجراءً شكليًا، بل ثقافة مؤسسية تُترجم إلى قراراتٍ عادلة وممارساتٍ منضبطة، أما الالتزام فهو الضمان المستمر لتلك الثقافة.
وبقدر ما تُفعّل الشركات أدوات الحوكمة وتدعم إدارات الالتزام، بقدر ما تُسهم في بناء سوقٍ سعوديٍّ نزيهٍ، شفافٍ، ومستدامٍ — وهو الهدف الذي تسعى إليه الأنظمة التشريعية والاقتصادية في هذا العهد المزدهر.

 

 

 

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *